1 عرض المعرض


الموت يغيّب الشاعر الزجّال اللبناني الكبير طليع حمدان عن 81 عاماً
(تُستخدم هذه الصورة بموجب البند 27 أ من قانون الحقوق الأدبية (2007))
برحيل الشاعر الزجلي طليع حمدان، يُطوى فصلٌ من فصول الذاكرة اللبنانية الحيّة. ابن قرية عين عنوب في قضاء الشوف، الذي رحل يوم أمس عن 81 عامًا، لم يكن مجرّد شاعر منبر أو صاحب صوت رخيم، بل أحد من نهضوا بالزجل اللبناني من قاعات القرى إلى فضاءات المهرجانات، ومن الشريط المسجّل إلى شاشات العالم.
صوتُه الذي كان يملأ الساحات بالعاميّة اللبنانية العذبة، تحوّل مع الزمن إلى رمزٍ لوحدةٍ وطنيةٍ وذاكرةٍ يتوارثها اللبنانيون جيلاً بعد جيل.
النشأة والبدايات
وُلد طليع نجيب حمدان في التاسع عشر من كانون الثاني/يناير 1944، في بيتٍ بسيط لعائلة زراعية مؤلّفة من أحد عشر ولدًا. نشأ في بيئة يغمرها الشعر والغناء، حيث كانت الأعراس في عين عنوب تُحييها جوقات الزجل، وتختلط فيها أصوات القرادي بنبض الحياة اليومية. والقرادي هو أحد أشهر أوزان الزجل اللبناني، يتميّز بإيقاعه السريع وطابعه الارتجالي الذي يقوم على التحدّي وتبادل الردّات بين الشعراء، في مشهدٍ يشبه حوارًا غنائيًا حيًّا من صميم الحياة اليومية.
هناك، تعرّف الطفل على الشعر الشعبي مبكرًا، فكان يهرب من المدرسة ليتابع حفلات شحرور الوادي – الشاعر الزجّال اللبناني يوسف إبراهيم الخطيب (1899–1981) – جامعًا النقود الصغيرة ليحجز لنفسه مكانًا بين الجمهور.
عام 1966، صعد الشاب طليع حمدان إلى خشبة كازينو خلدة في أولى حفلاته الرسمية إلى جانب الشاعر زين شعيب، لتكون تلك اللحظة نقطة الانطلاق نحو مسيرة طويلة امتدّت ستة عقود. ومع انطلاق الحرب الأهلية اللبنانية، أنشأ عام 1975 "جوقة لبنان الجديد"، التي ضمّت شعراء مثل نزيه صعب وأنطوان سعادة وخليل شحرور، قبل أن تتحوّل لاحقًا إلى "جوقة الربيع" بمشاركة عادل خدّاج.
قدّمت الجوقة عروضًا في كافّة المدن اللبنانية، قبل أن تحمل الزجل إلى الجاليات في أميركا الشمالية وأستراليا والخليج العربي، فتحوّلت حفلاته إلى جسور حنين بين الوطن وأبنائه في المهجر. بذلك، ساهم طليع حمدان في نقل الزجل من فضائه القروي إلى فضاء جماهيري واسع، جامعًا اللبنانيين على اختلاف مناطقهم ولهجاتهم حول لغة واحدة.
شاعر المنبرين
لقّب بـ"شاعر المنبرين" و"أمير الزجل اللبناني"، وكان حضورُه على المسرح مزيجًا من النبرة الهادئة والهيبة. امتازت لغته بالبساطة والعفوية، لكن دون أن تفقد عمقَها الشعري. كتب، بالعامّية التي يفهمها الجميع، في كلّ ما يمسّ الناس: من الغربة والحنين، إلى الوطن وفلسطين. حتى غزله، فلم يكن تقليديًّا أو محصورًا بالمرأة، بس امتدّ إلى الطبيعة بكلّ عناصرها، إلى الربيع والمطر والضوء، إلى الأمومة والطفولة، وإلى كلّ ما يوقظ في الناس من مشاعر. فقال:
"مش رح إتركك تا الروض يزهر ويصرخ يا طيور العزّ طيري
وتوعى هالدني والفجر يظهر عليها متل تنّورة قصيرة
وتفيق الشمس بسرير أحمر عم تكاغي متل طفلة زغيرة
وتقلّي إذا رح بعد تسهر تا إرجع نام هزّلّي سريري"
ولم يكن الزجل عند طليع حمدان مجرّد لونٍ فنيّ، بل جزءًا من الذاكرة اللبنانية الجماعية؛ فمزجت أشعاره بين حبّ الأرض وسحر الطبيعة، بين الفرح بالحياة والحنين إلى الوطن، وجعل من لبنان بطله الدائم وملهمَه الأوّل. فقال:
"لبنان فيك الشاعر تغنّى ولون الطبيعي بلونك تكنّى
والزهِر كل شي النحل تِمّو باس غير منّك شهد ما جنّى"
هذا وكتب طليع حمدان في رموز طائفته الموحّدة، في تعبيرٍ عن انتماء وجداني لا سياسي، وعن وفاءٍ لقيمٍ درزيةٍ أصيلة، فخصّ الشيخ أمين طريف، الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في إسرائيل، بقصيدة مؤثّرة بعنوان "تمنّيت شوفك يا علَم لفّاتنا"؛ وقال:
"يا شيخ ياللي صلّى وحمل أشرف كتاب منستقبلك بقلوبنا ودماتنا
وتا يخفّ عنا بهالوطن حمل العذاب بدنا السلام يطلّ مثلك عالوطن
ويحمل معه أفراحنا وبسماتنا
طِلّ ع لبنان طلات الغدير ع زهور عطشانة لدمعات العبير
وكيف الجليل وكيفهم هاك الحقول اللي سقيتهم من قلبك الكِلّو ضمير
جوائز كرّمته
نال طليع حمدان خلال مسيرته وسام الأرز من الرئيس إميل لحّود (2001)، ودرعًا من الرئيس رفيق الحريري (2002)، وميدالية كمال جنبلاط (2013)، إلى جانب تكريمات عديدة من مؤسسات ثقافية لبنانية وعربية. وفي عام 2015، كُشف الغطاء عن تمثالٍ لطليع حمدان في الساحة العامّة لبلدته عين عنوب، خلال احتفالٍ حضره عدد من الشخصيات الثقافية والدينية، قال فيه الشيخ نزيه صعب، أحد أبرز رجال الدين الدروز في لبنان، إنّ "تمثال طليع الحقيقيّ زُرع في قلوب محبّيه منذ بدأ رحلته مع الشعر"، في إشارةٍ إلى المكانة التي حظي بها حمدان كصوتٍ فنيٍّ ووطنيٍّ داخل مجتمعه.
برحيله، يخسر الزجل اللبناني أحد أعمدته، لكنّه يترك وراءه إرثًا يختصر حكاية الفنّ الشعبي في لبنان: من حفلات القرية الصغيرة إلى المهرجانات والشاشات، ومن الارتجال إلى القصيدة التي أصبحت جزءًا من ذاكرة الناس. طليع حمدان لم يكن فقط صوت القرية أو شاعر الجوقة، بل ذاكرة وطنٍ كاملة.

