في تطورٍ قد يُغيّر قواعد اللعبة في فهم الأمراض المعقّدة، طوّر علماء في جامعة "كيس ويسترن ريزيرف" الأميركية أداةً وراثيةً متقدمة تُمكّن من تتبع الجينات والتغيرات الدقيقة في الحمض النووي المرتبطة بأمراض القلب والسكري والاضطرابات الأيضية المرتبطة بهما، بدقة غير مسبوقة.
فهم أعمق للتركيب الوراثي للأمراض المزمنة
الأداة الجديدة تُدعى TGVIS، اختصارًا لـ "أزواج الجينات النسيجية، والمتغيّرات السببية المباشرة، ومُحدّد التأثيرات متناهية الصغر". وهي مصممة لتحليل العلاقة المعقدة بين الجينات والتغيرات الدقيقة التي تساهم في الإصابة بأمراض مزمنة مثل أمراض القلب والسكري، من خلال جمع معلومات متعددة المصادر وتحليلها في وقت واحد.
خطوة رائدة في الوراثة الحاسوبية
وقد نُشرت نتائج الدراسة في مجلة Nature Communications في 3 يوليو 2025، حيث تُعد هذه الأداة قفزةً كبيرةً في استخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الجينية لفهم أسباب الأمراض بشكل أكثر دقة، ما يفتح المجال أمام علاج شخصي لكل مريض، بناءً على تركيبته الوراثية الخاصة.
وقال الدكتور شياوفنغ تشو، المشرف على البحث: "استطعنا اكتشاف جينات كانت تُغفل سابقًا، ما يُوسّع فهمنا للأساس الجيني للأمراض، ويمكّن من الكشف المبكر وتطوير علاجات أكثر تخصيصًا".
لماذا يصعب رسم الخرائط الجينية للأمراض؟
تعتمد الدراسات الوراثية التقليدية، مثل دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (GWAS)، على مقارنة الحمض النووي بين الأفراد المرضى والأصحاء لتحديد الجينات المتصلة بصفات صحية معينة. لكن التحدي يكمن في أن الجينات لا تعمل بمعزل، بل تتفاعل ضمن شبكات معقدة عبر أنسجة متعددة.
فقد يتأثر التعبير الجيني بعوامل بعيدة عن الجين نفسه، وقد تعمل طفرات جينية دون التأثير المباشر عليه، مما يجعل من الصعب تحديد المسبب الحقيقي للمرض.
كيف تُغيّر TGVIS قواعد اللعبة؟
دمج معلومات متعددة لرسم صورة أوضح. أداة TGVIS تتجاوز القيود السابقة عبر دمج بيانات بيولوجية حول كيفية تعبير الجينات في أنسجة مختلفة، إلى جانب استخدام خوارزميات متقدمة لتحليل التفاعلات بين المتغيرات الوراثية والوظائف الحيوية.
وقد تم تطبيق الأداة على بيانات مأخوذة من 31 نسيجًا مختلفًا من جسم الإنسان، لتحليل 45 سمة مرتبطة بأمراض القلب والتمثيل الغذائي. وأسفرت النتيجة عن تحديد عدد من الجينات المؤثرة التي لم تكن مرصودة في الدراسات التقليدية.
نحو تطبيقات طبية ملموسة
من التشخيص إلى الوقاية والعلاج، من خلال هذا الاكتشاف، يمكن تحديد الأشخاص الأكثر عرضةً لخطر الإصابة بأمراض القلب والسكري عبر تحاليل جينية دقيقة، مما يسمح للأطباء بالتدخل مبكرًا بتوصيات حياتية أو دوائية، وربما إنقاذ حياة المرضى قبل أن تظهر الأعراض.
كما يمكن استخدام الأداة لتطوير اختبارات تشخيصية أسرع وأكثر دقة، بالإضافة إلى تصميم أدوية موجهة لمعالجة الخلل الجيني بعينه لدى كل مريض.
ما بعد أمراض القلب: إمكانيات غير محدودة
لا تقتصر إمكانيات الأداة على أمراض القلب فقط، بل يعمل فريق البحث بالفعل على توسيع استخدامها في دراسة أمراض معقّدة أخرى، مثل سرطان الثدي، والزهايمر، واضطرابات المناعة الذاتية.
يقول الدكتور تشو: "الأداة تُساعدنا على تحديد الجينات ذات الأولوية العالية للدراسة، مما يجعل أبحاثنا أكثر تركيزًا وفعالية".
الطب الدقيق: خطوة أقرب نحو المستقبل
مع استمرار جمع مزيد من البيانات الجينية من مجموعات سكانية متنوعة، من المتوقع أن تُسهم أدوات مثل TGVIS في بناء ملفات شخصية دقيقة للمخاطر الوراثية، تُدمج فيها العوامل السريرية ونمط الحياة، ما يعزّز مسار "الطب الدقيق" الذي يهدف إلى تخصيص العلاج بما يتناسب مع كل فرد.
ويأمل الباثون أن تقود هذه المقاربة الجديدة إلى تقليل التكاليف، وتحسين جودة الرعاية الصحية، وزيادة فرص الوقاية المبكرة.
أداة TGVIS تمثل نقلة نوعية في علم الوراثة الطبي، بقدرتها على كشف العلاقات المعقّدة بين الجينات والأمراض، ما يفتح الباب أمام حقبة جديدة من العلاجات الشخصية والتشخيص الدقيق، ويقرّب العالم خطوةً أكبر نحو مستقبل تتحول فيه المعرفة الوراثية إلى أداة مركزية في الطب الحديث.