قبل خمسة عشر عامًا، لم يكن أحد يتوقع أن تهتزّ أنظمة حكم عربية راسخة، بدت لعقود عصيّة على السقوط. لكن شرارة واحدة كانت كفيلة بإشعال واحدة من أوسع موجات الاحتجاج الشعبي في تاريخ المنطقة الحديث، حاملة معها أحلام الحرية والكرامة والعدالة.
اليوم، وبعد مرور 15 عامًا، تعود الأسئلة نفسها: ماذا تبقّى من "الربيع العربي"؟ وهل تحقّقت أحلامه أم تحوّلت إلى كوابيس؟
الشرارة الأولى: من سيدي بوزيد إلى الإقليم
بدأ "الربيع العربيط في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، عندما أضرم البائع المتجول محمد البوعزيزي النار في جسده في مدينة سيدي بوزيد التونسية، احتجاجًا على مصادرة بضاعته وإهانته من قبل السلطات المحلية.
لم تكن تلك الحادثة مجرّد فعل يأس فردي، بل تحوّلت إلى شرارة أشعلت غضبًا شعبيًا كامنًا، سرعان ما انتشر من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من الدول.
خرجت الملايين إلى الشوارع، مرددة هتافًا واحدًا: "الشعب يريد إسقاط النظام"، في تعبير مكثّف عن توق جيل كامل للحرية وكسر الخوف وإعادة الاعتبار للكرامة الإنسانية.
سقوط أنظمة وولادة واقع جديد
خلال أشهر قليلة، سقطت أنظمة حكم استبدادية حكمت لعقود بقبضة من حديد، في مشهد غير مسبوق في العالم العربي. بدا حينها أن التغيير أصبح ممكنًا من الداخل، وأن الطغاة لم يعودوا محصّنين كما في السابق.
غير أن النتائج جاءت متفاوتة. ففي حين نجحت بعض الدول في إحداث تغييرات سياسية محدودة، انزلقت دول أخرى إلى حروب أهلية وصراعات دموية، أو شهدت عودة القبضة الأمنية بأشكال جديدة.
من "الربيع" إلى "الخريف" و"الشتاء"
لم تزهر ثمار "الربيع العربي" كما حلمت الشعوب. ففي عام 2019، وصف الكاتب الأميركي نوا فيلدمان المرحلة بـ«الشتاء العربي»، في إشارة إلى عسكرة الثورات، وصعود التطرف، وتفكك الدول، واندلاع النزاعات.
وكتب الأكاديمي مايكل إغناتيف أن ما جرى يمثّل "الفشل المأساوي للربيع العربي"، مشيرًا إلى أن الإصلاحات الديمقراطية لم تملأ الفراغ الذي خلّفه سقوط الأنظمة، باستثناء التجربة التونسية التي بقيت محدودة النتائج.
موجة ثانية والروح لم تمت
ورغم الإخفاقات، لم تختفِ روح الاحتجاج. ففي 2019، شهدت المنطقة موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية في السودان والجزائر والعراق ولبنان، أعادت التذكير بأن أسباب الغضب ما زالت قائمة.
وترى الكاتبة والمترجمة اللبنانية لينا منذر أن شيئًا جوهريًا تغيّر منذ 2011، قائلة:"لا أعلم إن كان هناك ما هو أنبل من شعب يطالب بصوت واحد بحياة كريمة لقد أثبتت تلك اللحظات أن التغيير ممكن، وأن الناس قادرون على مواجهة أقسى أشكال الطغيان".
ماذا تبقّى من الربيع العربي؟
ترى الروائية المصرية أهداف سويف أن من المبكر تحديد الإرث النهائي لتلك الثورات، معتبرة أن الظروف التي أدت إليها جعلتها حتمية، وما زالت دوافعها قائمة.
وترفض سويف الربط بين الثورات وصعود الإسلام الراديكالي، معتبرة أن ما جرى هو نتيجة «ثورات مضادة» غذّتها سياسات الفقر والتهميش.
كما تؤكد أن المجتمعات، رغم القمع، باتت أكثر وعيًا وإدراكًا، مشيرة إلى تقدم ملحوظ في قضايا اجتماعية مثل حقوق المرأة والحريات الفردية، رغم طول الطريق المتبقي.
معيار جديد للسياسة والحوكمة
من جهته، يرى أستاذ الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة لندن أرشين أديب مقدم أن الشعوب العربية وضعت معيارًا جديدًا للحكم والسياسة.
ويقول:"منذ 2011، باتت كل السياسات تُقاس وفق مطالب الحرية والعدالة. وأي دولة تتجاهل هذه الحقيقة الجديدة ستجد نفسها في مواجهة مع شعوبها".
تغيّر نظرة الشعوب إلى الحكّام
يُظهر التاريخ أن الثورات لا تؤتي ثمارها سريعًا، لكنها تترك أثرًا لا يمكن محوه.
وتقرّ لينا منذر بأن نظرة الشعوب إلى حكّامها وإلى ذاتها تغيّرت إلى الأبد، مضيفة:"عشنا طويلًا على فكرة أن الفردية مرادف للحرية، لكن الربيع العربي علّمنا أن الكرامة هي مرادف الحرية".
تونس النموذج المختلف؟
لطالما اعتُبرت تونس الاستثناء الأبرز في مسار "الربيع العربي"، إذ نجحت في تفادي حرب أهلية وانقسام دموي.
ويرى نوا فيلدمان أنه "بالمقارنة مع الفشل في مصر والكارثة في سوريا، تبدو تونس علامة فارقة".
ومع ذلك، لا تزال مكاسب الثورة التونسية محدودة الأثر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ما يعكس تعقيد مسار التحول.
خلاصة: أحلام تراوح مكانها لكنها لم تمت
بعد 15 عامًا، قد تكون أحلام "الربيع العربي" تعثّرت، وربما انكسرت في بعض الأماكن، لكنها لم تُدفن.
فالتغيير الحقيقي بدأ في وعي الشعوب، وفي كسر حاجز الخوف، وفي إعادة تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
وإن كان الربيع لم يزهر بعد، فإن بذوره ما زالت حاضرة في وجدان المنطقة، تنتظر لحظة أخرى للنمو.


