بعد خمس سنوات من الثورة التي أحدثتها جائحة كورونا في نماذج العمل التقليدية، يعود العالم تدريجيًا إلى المكاتب، ويتّضح أن ما ظنه كثيرون أنه سيكون مستقبل العمل – العمل الهجين أو من المنزل – لم يكن أكثر من مرحلة انتقالية. شركات التكنولوجيا الكبرى، التي قادت في السابق سياسة المرونة، تغيّر اتجاهها الآن: من وعود بـ”مرونة دائمة” إلى فرض الحضور الإجباري، وفي بعض الحالات، خمسة أيام أسبوعيًا.
أعلنت شركات عملاقة مثل Intel وGoogle وAmazon وDell وJPMorgan عن تغييرات كبيرة في سياسة العمل من المكتب. أمازون، التي سمحت سابقًا بثلاثة أيام فقط في المكتب، تفرض منذ يناير 2025 أسبوع عمل كامل من مكاتبها. إنتل بدورها رفعت عدد أيام الحضور من ثلاثة إلى أربعة بدءًا من سبتمبر 2024، في حين ألزمت Google موظفيها بالعودة ثلاثة أيام في الأسبوع، محذرة من أن الغياب قد يهدد وظيفتهم.
وقد سمحت شركة التكنولوجيا العملاقة DELL بالعمل من المنزل للموظفين الذين يعيشون على مسافة ساعة بالسيارة من المكتب، ويمكن لأولئك الذين يعيشون على مسافة أبعد اختيار العمل من المنزل، ولكنهم غير مؤهلين للترقية دون موافقة خاصة من إدارة الشركة.
بينما تطلب Honda من موظفيها في أمريكا أن يتواجدوا 80% من الوقت في المكتب. هذا التوجه العالمي، تؤكده دراسة حديثة من شركة JLL العقارية، أظهرت أن 44% من الشركات حول العالم تطالب بحضور بدوام كامل، مقابل 34% فقط في 2022.
ماذا عن شركات في البلاد؟
في إسرائيل، تتجلى صورة أكثر تعقيدًا. شركات مثل Wix وPlaytika وMobileye تفرض أربعة أيام حضور أسبوعيًا، بينما تعتمد شركات أخرى مثل Amdocs وNvidia نموذجًا هجينًا أقل تشددًا. ومع ذلك، تشير المعطيات إلى أن الغالبية الساحقة من الشركات في البلاد لا تزال تسمح بنموذج هجين يتراوح بين يومين إلى ثلاثة من العمل في المكتب، وفقًا لما ورد في موقع غلوبس الاقتصادي.
تقول شيري ڤاكس، مديرة شركة التوظيف Gotfriends، في حديثها لغلوبس: “في إسرائيل، لا يمكن ببساطة نسخ النموذج الأمريكي أو الأوروبي. هناك رغبة في التماهي مع المعايير العالمية، لكن في الوقت نفسه هناك إدراك أن الموظف المحلي يقدّر المرونة، وأن الشركات التي تتشدد ستخسر أفضل الكفاءات، خاصة في مجالات تنافسية مثل السايبر وتطوير البرمجيات”.
من جهتها، تشير إنبال حُدش، الرئيسة التنفيذية لشركة Gifthead، في حديثها لغلوبس، إلى عوامل محلية تجعل من الصعب فرض الحضور الإجباري، مثل الأوضاع الأمنية، وصعوبة المواصلات، والتقلبات التي تمنع تخطيط أسبوع عمل منتظم. في هذا السياق، تحظى الفرق المحلية بقدر أكبر من الاستقلالية لتحديد ما يناسبها.
أساليب “ناعمة” في فرض السياسة
بالرغم من تحديث العديد من الشركات لسياساتها بخصوص العمل من المكتب، إلا أن التنفيذ على أرض الواقع لا يتم دائمًا بالقوة. كثير من الموظفين في شركات التكنولوجيا في البلاد يشيرون إلى وجود “تفاهمات ضمنية”، تتيح لهم العمل من المنزل دون صدام مع الإدارة. أحد العاملين في شركة كبيرة قال: “القواعد الرسمية شيء، والممارسة اليومية شيء آخر تمامًا”.
لكن في الشركات الناشئة (Startups)، الوضع مختلف. يُتوقع من الموظفين حضور خمسة أيام أسبوعيًا، مع مرونة طفيفة. ويشرح توبي شتاين من TLV Partners لغلوبس بأن التوجّه الحالي في هذه الشركات يميل نحو الانضباط الكامل، ثم التراجع حسب الحاجة للحفاظ على الموظفين.
يرى نيسان إيتل، خبير التوظيف في قطاع الهايتك، أن هذا التوجه نحو العودة للمكاتب ليس دائمًا ناتجًا عن استراتيجية إنتاجية، بل أحيانًا يُستخدم كأداة لتقليص عدد الموظفين دون إجراء رسمي. “عندما تطلب من الجميع العودة للمكاتب، فإن من لا يناسبه الوضع الجديد يغادر بنفسه، وهذا يُعتبر تقنيًا ‘استقالة طوعية'”. الموظفون الضعفاء غالبًا سيبقون، أما النخبة فستغادر إذا شعرت بأن حريتها تقلّصت.
الموظفون غاضبون!
في أمازون، أدى التغيير إلى موجة غضب واسعة. موظفون أشاروا إلى صعوبة التوفيق بين العمل وحياة الأسرة، وزيادة التوتر النفسي، والشعور بالاغتراب عن ثقافة الشركة. البعض وصف العودة الإلزامية بأنها انقلاب على اتفاقيات العمل السابقة، خاصة أولئك الذين انضموا بعقد يسمح بالعمل عن بُعد.
في JPMorgan، عانى الموظفون من اكتظاظ في المكاتب ونقص في أماكن الجلوس، إلى جانب ضعف في البنية التحتية مثل الإنترنت. حتى الاجتماعات على Zoom أصبحت مزعجة نظرًا لأنها تُجرى في مساحات مفتوحة.
وجهة نظر مختلفة: الإنتاجية لا تتطلب مكتبًا
لكن في المقابل، يرى خبراء أن العمل عن بُعد لا يضر بالإنتاجية، بل على العكس، إذ يعتبر البعض أن العمل من المنزل ساهم في رفع مدة بقاء الموظفين، وتقليص التوتر، وزيادة الكفاءة، وبأن قياس الانتاجية للعاملين عن بعد، إن توفرت لهم الأدوات المناسبة، يثبت عدم تضرر كفاءتهم على الإطلاق.
أما السبب الحقيقي لتفضيل العمل من المكتب عند بعض المدراء فقد يعود إلى تفضيل المدراء رؤية موظفيهم أمامهم. بل قد يكون السبب أيضًا إلى رغبة المديرين بالتحكم والشعور بالمكانة.
وقد أظهرت دراسة نُشرت في موقع وول ستريت جورنال، أنّ نسبة تسريح العاملين عن بعد أكبر بـ 35% من زملائهم، وأنّ 10% من الوظائف عن بعد عام 2023 قد أُلغِيَت مقارنةً بـ 7% من الوظائف المكتبيّة. كذلك، فإنّ الموظّفين من البيت هم الأكثر استقالة، حيث استقال 12% منهم عام 2023، مقارنة باستقالة 9% من أقرانهم. وقد يعود ذلك إلى ضعف العلاقات الإنسانية عن بعد، ما يُسهّل على المدير طردهم مقارنة بمن هو على علاقة أقرب منهم، أي العاملين في المكتب.
لكن تشير دراساتٌ أخرى أنّ العاملين من البيت، رغم كونهم الأكثر عرضةً للتسريح والأقلّ حصولًا على الترقيات والعلاوات، هم الأكثر سعادةً. في حين عبّر الموظّفون في المكتب عن حالات نفسيّة أسوأ وأكثر توتّرًا.