تصادف في الثامن والعشرين من أكتوبر ذكرى رحيل الموسيقار اللبناني ملحم بركات، أحد أعمدة الأغنية اللبنانية الحديثة، وصاحب الإرث الفنّي الذي لا يزال حاضرًا في وجدان اللبنانيين والعرب.
وُلد بركات عام 1945 في بلدة كفرشيما في قضاء بعبدا، في بيتٍ متواضع لأبٍ نجّار يعزف على العود وأمٍ محبّة للفنّ. نشأ في بيئة بسيطة يسكنها الشغف بالموسيقى، فظهرت موهبته منذ سنواته الدراسية الأولى، حين لفت انتباه الموسيقي حليم الرومي الذي أشاد بقدراته وشجّعه على صقلها أكاديميًّا. وفي السادسة عشرة من عمره، ترك المدرسة سرًّا والتحق بالمعهد الوطني للموسيقى في بيروت رغم معارضة والده، حيث درس أصول العزف والصولفيج والغناء الشرقي، وتتلمذ على أيدي أساتذة كبار مثل زكي ناصيف، توفيق الباشا وسليم الحلو.
انطلاقته بين الرحابنة والمسرح
قبل أن يكمل دراسته، استجاب بركات لنصيحة فيلمون وهبي بالانضمام إلى مسرح الأخوين رحباني، فشكّلت تلك الخطوة بداية مسيرته الفعليّة. شارك في عدد من المسرحيّات الغنائية إلى جانب فيروز وصباح، منها "الليل والقنديل" و"سفر برلك" و"الربيع السابع"، حيث برز أداؤه الصوتي وحضوره المسرحي اللافت.
عام 1968، قرّر شقّ طريقه الفنّي المستقلّ، فكانت أغنية "الله كريم بنرجع ع ضيعتنا"، من كلمات الشاعر توفيق بركات وألحان فيلمون وهبي، أولى محطاته كمغنٍّ محترف، تلتها مجموعة من الأعمال المسرحية والغنائية التي رسّخت حضوره في الساحة اللبنانية. بالتوازي، بدأ يبرز كملحّن، وكانت أولى ألحانه أغنية "بلغي كل مواعيدي"، التي قدّمها مع جورجيت صايغ، لتشكّل انطلاقته الفعليّة في المجال.
وفي السبعينيّات، لمع اسمُه كأحد أبرز الملحّنين اللبنانيين، بعدما قدّم مجموعةً من الألحان للشحرورة صباح ضمن مسرحية "حلوة كتير"، من بينها "ليش لهلق سهرانين"، "المجوّز الله يزيدو" و"صادفني كحيل العين". كما لحّن لوديع الصافي، ماجدة الرومي، وليد توفيق وغيرهم من نجوم الغناء العربي.
إلى جانب نشاطه التلحيني، قدّم أغانٍ عاطفيّة صارت من علامات الأغنية اللبنانية، مثل "تعا ننسى"، و"على بابي واقف قمرين" و"يا حبي اللي غاب". كما خاض تجربة التمثيل في الثمانينيات من خلال أفلام مثل "حبي لا يموت" و"المرمورة"، حيث جسّد شخصيات عبّرت عن حضوره القوي وصوته الطربي المتفرّد.
لبنان بالنسبة لملحم بركات
كان بركات من القلائل الذين غنّوا للبنان بصدقٍ لا تشوبُه الشعارات، فقدّم، إلى جانب أغانيه العاطفية، أعمالًا وطنية تعبّر عن انتمائه العميق للبنان، مثل "موعدنا أرضك يا بلدنا" و"رح تبقى الوطن" التي أدّاها مع نجوى كرم، وأغنية "من فرح الناس جايي" التي أهداها إلى الرئيس إميل لحّود.
وعلى امتداد مسيرته، تمسّك ملحم بركات باللهجة اللبنانية، ورفض الغناء بلهجات عربية أخرى رغم ما كان يتيحه من فرص أوسع للانتشار. كان يرى في ذلك موقفًا فنيًّا ووطنيًّا في آنٍ واحد، إذ اعتبر أنّ الأغنية اللبنانية جزءٌ من هويّة بلدٍ يجب الحفاظ عليها. وقد عبّر عن ذلك بوضوح في أحد تصريحاته قائلًا: "عاديت الفنانين وشتمتهم لأنهم يغنّون بغير اللهجة اللبنانية. أقول لهم: لا تؤاخذوني، أنا طلعت حمار، إنتو اللي بتفهموا. اللي بيحرق هذا البلد بيحبوه، واللي بيحبّ هذا البلد بيكرهوه".
شخصية لا تعرف المساومة
لم يكن ملحم بركات فنانًا عاديًا، بل ظاهرة موسيقية وشخصية مثيرة للجدل. عُرف بصراحته المفرطة ومواقفه الجريئة، فكان ينتقد علنًا الفنانين اللبنانيين الذين يغنّون بلهجات غير لبنانية، معتبرًا أنّ "من يترك لغته يترك نفسه". وقد وصفه النقّاد بـ"الفنّان المثير والثائر" لما اتّسمت به شخصيّته من حماس وجرأة في الرأي والموقف.
ارتبط ملحم بعلاقات مع الوسطين الفنّي والسياسي، وجمعته صداقات مع رؤساء وزعماء عرب، من بينهم الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي الذي كتب له كلمات أغنية "أبحث عنها". مع ذلك، ظلّ وفيًّا لطبيعته البسيطة، معروفًا بكرمه وحبّه للطبيعة والصيد، وغالبًا ما كان يجالس جمهوره في المقاهي الشعبيّة بعيدًا عن مظاهر النجوميّة.
حياته الشخصية
تزوّج بركات ثلاث مرات: الأولى من سعاد فغالي، شقيقة الفنانة الراحلة صباح، ثمّ من السيّدة رندا عازار التي أنجب منها أبناءه مجد ووعد وغنوة، وأخيرًا من الفنّانة مي حريري التي أنجبت له ابنه ملحم جونيور. ويسير ابنه وعد اليوم على خطاه، إذ يكتب ويلحّن ويحيي تراث والده في حفلات داخل لبنان وخارجه، ويعمل في الوقت نفسه على إنتاج أعمال جديدة تحمل بصمته الخاصة، محافظًا على الهوية الطربية التي تميّز بها اسم بركات.
رحيله
توفّي ملحم بركات في 28 أكتوبر عام 2016 في بيروت بعد معاناة مع المرض، عن عمر ناهز الثانية والسبعين. رحل "أبو المجد" تاركًا خلفَه رصيدًا موسيقيًّا تجاوز 13 ألبومًا وأكثر من مئة أغنية، وإرثًا فنّيًا لا يزال حاضرًا في الذاكرة اللبنانية والعربية. مُنح بعد وفاته من الرئيس ميشال عون وسامَ الأرز من رتبة كومندور تقديرًا لعطائه وتكريمًا لمسيرته.
لم يكن ملحم بركات مجرّد موسيقار، بل كان حالة لبنانية خاصّة. تسع سنوات مرّت منذ غاب أبو المجد، ولا يزال حاضرًا في ذاكرة اللبنانيين والعرب، وألحانه تنبض بالحياة وكأنها وُلدت للتوّ.





