نشرت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (Pacbi) بيانًا أشارت فيه إلى أنّ الفيلم " لا أرض أخرى"- والحائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وثائقي، ويحكي قصة التطهير العرقي لمسافر يطا ومن خلالها قصة فلسطين عمومًا- تعرض موقفها من الفيلم. توصلت اللجنة إلى موقف مفاده أنّ الفيلم "يخالف، من عدة نواح، معايير مناهضة التطبيع". وأشار البيان إلى أنّ مبادرة " كلوس اب" قد ساهمت في دعم الفيلم، وهي مبادرة تهدف - حسب البيان- إلى " تطبيع العلاقات بين السينمائيين العرب والاسرائيليين". وأشار البيان إلى أن "بعض أعضاء فريق الفيلم من الإسرائيليين لم يعترف ببعض الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، بل أكثر من ذلك، لم تصدر عنهم أيّة مواقف تعترف بارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية". ويشير البيان إلى أنّ طاقم الفيلم قد نشر بيانًا " يذكر صراحة النكبة والتطهير العرقي والاستعمار الاستيطاني والأبارتهايد ويطالب بالعدالة للاجئين الفلسطينيين". ويشير البيان أيضًا إلى حملة التحريض التي تعرض لها الفيلم من إسرائيل، وإلى محاولات متكّررة لمنع عرضه، " لانّها رأت فية كشفًا عن بعد مهم، وان كان جزئيًّا، لنظامها الاستعماري القائم منذ عقود". رغم ذلك، يشير البيان - وبحق باعتقادي-إلى أنّ " مهاجمة الحكومة الاسرائيلية الفاشية وأدواتها لأيّ عمل فني يخالف معايير حركة المقاطعة المتوافق عليها في المجتمع الفلسطيني لا يمكن اعتبارها معيارًا رئيسيًّا ما إذا كانت حركة المقاطعة ستطلق حملة لمقاطعة هذا العمل أم لا".
بالرغم من كل ذلك، توّصلت اللجنة إلى ضرورة إصدار بيان يدعو إلى مقاطعة الفيلم. ويعلّل البيان حقيقة اعتبار هذا العمل عملا تطبيعيًّا لانه يقع ضمن التعريف المتعارف عليه للتطبيع، ألا وهو "المشاركة في أيّ مشروع أو مبادرة أو نشاط، محلي أو دولي، يجمع على نفس المنصة بين فلسطينيين أو عرب وإسرائيليين ولا يستوفي الشرطين التاليين: أوّلًا: أن يعترف الطرف الاسرائيلي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي (عودة اللاجئين، إنهاء الاحتلال ونظام الابارتهايد) وثانيًا: أن يشكّل النشاط شكلًا من أشكال النضال المشترك ضد نظام الاحتلال والاستعمار - الاستيطاني والأبارتهايد الاسرائيلي).
بعد المعاينة، قرّرت اللجنة أنّ النشاط لا يستوفي الشرطين الأخيرين وعلية فهو تطبيعي. عليّ أن اقول إنني غير مقتنع بالتحليل أعلاه! سأوضح، أو سأحاول التوضيح:
لا شك أنّه بعد سنوات أوسلو الهزيلة، والهرولة غير المبرّرة لعناق القيادات الاسرائيلية بما فيها قيادات أمنية وسياسيّة، كان من الضروري ضبط المشهد بالحدّ الأدنى، وتوظيف البعد الأخلاقي كعامل مهمّ في هذا الصراع وهذا النضال طويل الأمد، خاصة وأنّ أساليب النضال الأخرى- المفاوضات أو العمل العسكري- لم تحقق الإنجازات المرجوة.
لكن باعتقادي يخطئ من يعتقد أنّه يستطيع القفز عن ضرورة إجراء الموازنات وحسابات الربح والخسارة في كل حالة عينيّة، وأنّ العودة إلى التعريفات ليست بديلًا عن تفعيل وتحكيم المنطق السليم في كل حالة وحالة. أنا على وعي تام بالمنطق الذي يقود عمل اللجنة، وهو منطق يقوم على المثابرة والمبدئيّة دون الخوض في تفاصيل الحالة العينيّة، لانّ من شأن ذلك أن يفتح الباب على مصراعيه لأعمال ونشاطات تطبيعيّة وانتهازية، ومن الأفضل ان نوصد الباب بشكل محكم وقطعي.
لكن باعتقادي أنّ هذا المنطق يسعى لأن يعفي نفسه من عبء اتخاذ القرار العينيّ عن طريق اللجوء إلى معادلات ومبادئ أخلاقية عامة وصارمة، لكن لا بديل من الخوض في التفاصيل وإجراء حسابات لا تخضع لمعادلات عامة جاهزة. في هذه الحالة لا بدّ من السؤال عما إذا كانت الفائدة التي يجنيها الشعب الفلسطيني من عرض الفيلم وكشف ممارسات إسرائيل في أكثر المنصات شهرة في العالم، تفوق الضرر الذي قد ينجم عن كون الفيلم نتاج مشترك بين مخرج إسرائيلي وفلسطيني- أي تطبيعي بلغة البيان.
من يقرأ البيان يشعر أنّ كاتبيه يعملون في تفسير المبادئ التي كتبوها بأنفسهم، وكأنّ القرار بمقاطعة الفيلم مجرد استنتاج منطقي ينبع تلقائيًّا من المبادئ العامة لحركة المقاطعة، وجلّ ما قاموا به هو تطبيق القاعدة على الحالة العينيّة وما عليهم إلا الامتثال لما تقرّه القاعدة. لكن حركة المقاطعة هي حركة سياسية بامتياز وتقرّر ما تقرّر، ليست بصفتها مجموعة من الفقهاء الذين يفسرون القاعدة الاخلاقية، انّما حركة يقودها نشطاء سياسيون يتخذون قرارات فيما إذا كانت وسيلة النضال هذه مفيدة أو غير مفيدة، تقدّم النضال أم تعيقه.
إنّ هذا النوع من الاسئلة لا يمكن حسمه بالعودة إلى معادلات أو قواعد أخلاقية مجرّدة. لا بد من السؤال العيني، في الظرف العيني، حول الفيلم العيني: هل هذا الفيلم، بطريقة إخراجه وتمويله، وأخذًا بعين الاعتبار الرسالة التي يحملها للعالم-حتى لو كان بمشاركة مخرج إسرائيلي- هو فيلم يسعى بالمحصّلة للإبقاء على الوضع الراهن، يعزّز الاحتلال والأبارتهايد، أم أنّ اثره العام(أخذا بعين الاعتبار كل الامور المتعلقة بالفيلم) هو فضح الممارسات الإسرائيليّة، وضعضعة صورة إسرائيل، وإدانة الاحتلال والتهجير والاقتلاع والاستيطان؟
أميل إلى الاعتقاد بّأن هذا الفيلم في المحصلة هو فيلم جيد، وأنّه في المحصلة يحاصر إسرائيل، وأنّ الجانب التطبيعي فيه هامشي مقارنة بالرسالة التي يحملها، وأنّه بعد أن نزن الفيلم، بما له وما عليه، فاني سعيد بوجوده كما هو، وكنت أفضّل أن يكون وأن يصنع وأن يُعرض وأن يحصد الجوائز التي حصدها. ذلك أفضل من حالة لم يكن، ولم يصنع ولم يُعرض فيها الفيلم. بكلماتٍ أخرى: وجوده أفضل من غيابه، وفوائده أكبر من أضراره.
أميل إلى الاعتقاد بأنّ من الأمور المهمّة في السياسة زيادة التضامن مع قضيتنا، وزيادة عدد المنابر التي يمكن أن نطرحها فيها، وتوسيع رقعة الجمهور الذي يمكن أن نصل إليه. صحيح جدًّا أنّ هذا المنطق قد يقود إلى الانهراق أحيانًا، وإلى المساومة في قضايا جوهريّة في بعض الحالات، وفتح الباب أمام بعض الانتهازيين في حالات أخرى. أعترف أنّ هذا الخطر موجود دائمًا، لكن لا أرى بديلًا عن ضرورة موازنة المخاطر بالإنجازات في كل حالة وحالة. ومن يعتقد أنّه يستطيع الهروب من هذه المعضلة عن طريق العودة إلى مجموعة جاهزة من القواعد العامة المجرّدة، فهو-باعتقادي المتواضع- مخطئ. أنا على يقين بأنّ لدى اعضاء اللجنة المعرفة، والاستقامة، والثقة، كي يزينوا كلّ حالة بمعطياتها وظروفها وفوائدها ومضارها. هناك مسؤولية وطنيّة في حال المقاطعة وفي حال عدمها. عندما تقرّر اللجنة مقاطعة فيلم من هذا النوع، فانّ لسان حالها يقول: كان من الأفضل لو لم يولد هذا الفيلم، ولم يعرض، ولم ينتشر، ولم يشاهد. لكن لسبب ما يراودني شعور بأنّ أعضاء اللجنة، في المحصّلة، سعيدون بوجود الفيلم، وسعيدون بإنجازاته وكشفه لسياسات إسرائيل. وإذا كان الحال كذلك، فيجب إعادة النظر في النظرية نفسها عندما تصطدم وتتعارض مع الحدس السياسي السليم، بدل الخضوع الميكانيكي للنظرية وتوبيخ الحدس.
صحيح، قد تكون مضار للعمل المشترك مع إسرائيليين، وللتواجد معهم على نفس المنصة، لكن قد تكون له فوائد أيضًا في فتح آفاق نضالية جديدة، ومساحات أكبر من الحركة، والوصول إلى جماهير أوسع. لا توجد طريقة جاهزة ومسبقة يمكن ان نحسم فيها بشكل قطعي كيف يمكن اقامة هذا التوازن، وكما أنّ هناك ما نخسره من العمل معهم، فهناك ما نخسره من عدم العمل معهم.
د. رائف زريق هو محاضر وباحث أكاديمي في القانون والقضاء