رغم أن مجرة درب التبانة تبدو لنا في السماء مجرد شريط لَبني من النجوم، إلا أن هذا الامتداد الخافت يُخفي وراءه بنية كونية معقدة وتاريخاً مضطرباً من التحولات الكبرى.
تمتد مجرتنا عبر أكثر من 100 ألف سنة ضوئية، لكنها تظل بشكل مدهش، مسطّحة كالقرص، تدور فيها مليارات النجوم حول نواة مركزية مزدحمة، تحوي ثقوباً سوداء ومادة مظلمة لا تُرى بالعين.
لكن هذا الانضباط الهندسي لا يعني السكون، فدرب التبانة ليست مجرة هادئة، إذ رصد العلماء عشرات التيارات النجمية الناتجة عن مجرات قزمة اقتربت أكثر من اللازم، فمزقتها جاذبية المجرة الكبرى وابتلعتها.
كما تحيط بها عناقيد نجمية تعود إلى البدايات الأولى للكون، وتكشف دراستها عن تاريخ التكوين المجري والتفاعلات القديمة.
مجرة مسطحة
ورغم اتساع مجرة درب التبانة إلى حدود خيالية تمتد قرابة 100 ألف سنة ضوئية من طرف إلى طرف، إلا أنها تبدو مسطحة إلى حد كبير، كما لو كانت قرصاً رقيقاً هائلاً مع بعض التفاصيل المنتفخة في الوسط.
تخيَّل فطيرة واسعة مدهونة بالكريمة في المنتصف، وهذه الكريمة هي "الانتفاخ المركزي" الذي يحتضن نواة المجرة النشطة، مليئة بالنجوم القديمة والثقوب السوداء، وتدور حوله المجرة بأكملها.
ولا يتعدى سُمك هذا القرص المجري في الغالب 1000 سنة ضوئية، ما يجعله رقيقاً مقارنة بامتداده العرضي.
ونحن، أي الشمس وكوكب الأرض، نسكن هذا القرص، على بعد نحو 26 ألف سنة ضوئية من مركزه، في أحد الأذرع الحلزونية، بعيدين نسبياً عن الفوضى النشطة التي تعم قلب المجرة.
وهذا الموقع "الضاحي"، إذا جاز التعبير، يوفّر لنا قدراً من الاستقرار الكوني، بعيداً عن النشاط العالي للإشعاعات والثقوب السوداء التي تهيمن على النواة. ومع أن المجرة تبدو مسطحة في العموم، إلا أن تفاصيلها الدقيقة تكشف عن تموّجات وانحناءات طفيفة في قرصها، تماماً كما تتعرج حواف قرص مدمج قديم بفعل الزمن.
والطابع المسطح لمجرة درب التبانة ليس مجرد صدفة هندسية، بل هو نتيجة مباشرة لتفاعلات معقدة وطويلة الأمد بين الجاذبية، والزخم الزاوي، والمادة الكونية بأنواعها المختلفة.
ففي بدايات تشكُّل المجرة قبل أكثر من 13 مليار سنة، كانت درب التبانة عبارة عن سحابة ضخمة من الغاز والغبار الكوني تدور ببطء حول نفسها تحت تأثير الجاذبية.
وتُعد هذه الحركة الدورانية هي المفتاح، كلما دارت السحابة أكثر، ازداد ما يُعرف بالزخم الزاوي، وهو المبدأ الفيزيائي الذي يدفع الأجسام الدوارة إلى أن تُسطّح نفسها تدريجياً، تماماً كما تنبسط عجينة البيتزا تحت تأثير دورانها في الهواء. ونتيجة لهذا، أخذت المادة في الانضغاط في مستوى واحد لتكوّن ما نراه اليوم على شكل قرص مجري.
لكن هذا ليس كل شيء. تشكُّل النجوم، وتفاعل الغاز، والموجات الصدمية الناتجة عن المستعرات العظمى (السوبرنوفا) ساعدت على إبقاء القرص المجرّي مستوياً نسبياً، عبر توزيع الطاقة والزخم بشكل متوازن على مدى مليارات السنين.
ومن العوامل الأخرى التي ساهمت في الحفاظ على الشكل المسطح، هو غياب التصادمات الكبرى في الفترة الأخيرة من تاريخ المجرة. فلو أن درب التبانة اصطدمت بمجرة بحجمها في زمن قريب نسبياً، لكانت هذه البنية المسطحة قد تشوّهت أو تفتتت.
وصحيح أن المجرة خاضت الكثير من الاندماجات في ماضيها البعيد، وابتلعت العديد من المجرات القزمة، لكنها ظلّت في المجمل مستقرة بما يكفي لتحتفظ بشكلها القرصي.
وهناك أيضاً تأثيرات المادة المظلمة غير المرئية التي تشكل نحو 85% من كتلة المجرة، إذ تلعب دوراً محورياً في تماسك القرص المجري ومنع تفتته، عبر قوتها الجاذبية المنتشرة في "هالة" ضخمة تحيط بالمجرة بأكملها.
وتُعتبر هذه الهالة بمثابة الهيكل الخفي الذي يحفظ انتظام شكل المجرة ويمنعها من التمدد أو الانهيار.
عناقيد كروية
ورغم أننا نعيش في منطقة هادئة نسبياً من مجرة درب التبانة، إلا أن جوارنا الكوني مليء بآثار من بدايات الكون ذاته، إذ تحيط بنا مجموعة كبيرة من العناقيد النجمية القديمة تُعرف باسم "العناقيد الكروية"، ويُقدّر عددها بأكثر من 150 عنقوداً، منتشرة في هالة المجرة، تلك المنطقة الكروية الواسعة التي تمتد خارج القرص المسطح الرئيسي.
وتحتوي هذه العناقيد على مئات الآلاف من النجوم، وهي من بين أقدم الأجسام المعروفة في الكون، إذ تعود أعمارها إلى أكثر من 12 مليار سنة، أي أنها تشكّلت بعد وقت قصير من ما يُعرف بـ"الانفجار العظيم".
النجوم في هذه العناقيد تختلف تماماً عن شمسنا متوسطة السن، فهي نجوم "عجوزة" منخفضة الكتلة، تكاد تخلو من العناصر الثقيلة، ما يدل على أنها وُلدت في زمن لم يكن فيه الكون قد أنتج بعد الكثير من هذه العناصر عبر الأجيال المتعاقبة من المستعرات العظمى.
وتُعد دراسة هذه العناقيد بمثابة الرجوع إلى الزمن البدائي للكون، وتساعد العلماء على فهم شكل البيئة الكونية في لحظاتها الأولى، وكيف بدأت المجرات في التجمع والنمو.
لكن الحكاية لا تنتهي عند العناقيد، فبالقرب من درب التبانة، تدور أيضاً مجرات قزمة بأعداد كبيرة، أبرزها سحابتا ماجلان الكبرى والصغرى، وهما مجرتان تابعتان تشاهدان بالعين المجردة في السماء الجنوبية، وتبدوان كغمامتين لبنيتين خافتتين.
ورغم صغر حجمهما مقارنة بدرب التبانة، إلا أن لهما أهمية كبرى في فهم تطور المجرات، إذ يُعتقد أنهما في طور الاندماج مع مجرتنا أو تمران بعمليات مد جاذبي مؤلمة قد تؤدي إلى تمزقهما على المدى البعيد.
هذا الجوار القديم والغني بالتاريخ الكوني لا يمنحنا فقط مناظر ليلية خلابة، بل يُعد بمثابة متحف حي للكون المبكر، يطفو حولنا في صمت.
وبينما تبدو النجوم لامعة وبراقة في السماء، فإن كثيراً منها يحمل في طياته قصصاً من بدايات الزمن، حين كانت المجرات تتكوّن، والكون لا يزال يتلمّس خطواته الأولى.
كيف سيبدو المشهد من الأرض بعد 4 مليارات سنة؟
ستكون السماء ليلاً مشهداً سريالياً لا يُصدّق، فقبل الاصطدام النهائي، ستملأ أندروميدا السماء تدريجياً، متضخمة مع مرور الزمن حتى تصبح أكبر من القمر الكامل بأضعاف، تضيء السماء بضوءها الناعم. وبعد بداية الاندماج، ستتحول السماء إلى لوحة فوضوية من النجوم والغبار والمجرات المتشابكة.
وإذا كان كوكب الأرض لا يزال موجوداً في ذلك الوقت، فإن ساكنيه سيشهدون عرضاً سماوياً هو الأجمل على الإطلاق، لكنه يشير أيضاً إلى نهاية الهوية المستقلة لمجرة درب التبانة.
أما على المستوى المحلي، فلا داعي للذعر، فرغم ضخامة الحدث، فإن من غير المتوقع أن تتعرض النجوم أو الكواكب للتدمير، إذ أن شمسنا قد تكون قد دخلت طور "العملاق الأحمر" بحلول ذلك الوقت، ما يعني أن الأرض ربما لم تعد صالحة للحياة أصلاً.
ومع ذلك، فإن الاندماج لن يتسبب في إبادة كونية، بل في إعادة تشكيل هائلة لتوزيع النجوم داخل المجرة الجديدة. والنظام الشمسي، إذا بقي متماسكاً، قد يُدفع إلى موقع مختلف تماماً داخل المجرة الجديدة، بعيداً عن مركز الحدث.
بعبارة أخرى، درب التبانة كما نعرفها الآن، بكل هدوئها ونظامها وقرصها الحلزوني المألوف، ستصبح يوماً ما مجرد فصل قديم في تاريخ مجري أكثر ضخامة، جزء من ملحمة كونية لا تزال تُكتب ببطء، نجماً بعد نجم، ومليار سنة بعد مليار.