لم يشهد العالم العربي تسارعاً رقمياً كما يشهده اليوم. فبين دولٍ رسّخت مكانتها في طليعة التحول الرقمي مثل السعودية والإمارات، وأخرى تحاول اللحاق بالموجة التقنية بعد سنوات من التحديات مثل سوريا والعراق ولبنان، يُعاد رسم الخريطة الرقمية العربية على نحو غير مسبوق.
تشير بيانات تقرير «PwC الشرق الأوسط 2025» إلى أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي في المنطقة قد يضيف أكثر من 320 مليار دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، وتستحوذ المملكة العربية السعودية وحدها على نحو نصف هذه القيمة بفضل استراتيجيتها الوطنية للذكاء الاصطناعي ومشاريعها الطموحة مثل «نيوم» و«ذا لاين».
كما تعمل المملكة على رفع مساهمة الاقتصاد الرقمي إلى 19 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، وفق وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، بينما بلغت نسبة استخدام الإنترنت 98 في المائة، والهواتف الذكية 130 في المائة من عدد السكان، بحسب بيانات «DataReportal 2025».
ولا تقتصر قوة التحول الخليجي على الأرقام، بل تمتد إلى النضج الاستراتيجي والسيادة الرقمية، من خلال إنشاء مراكز بيانات محلية وتطوير نماذج لغوية عربية مثل مشروع «علّام»، في خطوة تعكس الانتقال من استهلاك التكنولوجيا إلى صناعتها وتوطينها.
سوريا... عودة تدريجية إلى الخريطة التقنية
في المقابل، تخطو سوريا خطواتها الأولى في طريق التحول الرقمي بعد سنوات من الانقطاع. ويُرتقب الأسبوع المقبل افتتاح معرض «سيريا هايتك 2025» لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في دمشق، بمشاركة أكثر من 223 شركة من 10 دول، من بينها السعودية والإمارات وقطر وتركيا والمملكة المتحدة والصين.
ويعدّ وزير الاتصالات وتقانة المعلومات السوري عبد السلام هيكل الحدثَ بدايةً لبناء منظومة رقمية وطنية، تمكّن الشركات المحلية من النمو عبر شراكات دولية مع أبرز شركات التكنولوجيا في العالم. وأوضح أن الأولويات الحكومية تتركز على تعزيز البنية التحتية الرقمية، وتمكين المبتكرين المحليين، واستقطاب الاستثمارات في القطاع التقني.
ومن أبرز المشاريع التي تُعنى بتقوية الاتصالات في سوريا: مشروع "سيلك لينك" للألياف الضوئية، ومشروع "أوغاريت 2" الذي يهدف إلى مضاعفة سعة الإنترنت وتحسين تبادل البيانات الإقليمي. ورغم ضعف البنية التحتية، فإن هذه الخطوات تمثل محاولة لإعادة بناء الاقتصاد عبر التحول الرقمي.
من “اقتصاد المساعدات” إلى “اقتصاد المهارات”
تشهد المنطقة تحولاً هيكلياً في مفهوم التنمية، إذ تنتقل تدريجياً من الاعتماد على المساعدات إلى الاستثمار في المهارات. فبحسب تقرير منظمة العمل الدولية لعام 2025، تشكل الوظائف الرقمية اليوم أكثر من 14% من فرص العمل الجديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بنسبة نمو تفوق 70% مقارنة بعام 2019، مع توقعات بأن تصل النسبة إلى 20% من القوى العاملة العربية بحلول 2030.
ويأتي منتدى «سيريا هايتك 2025» ضمن هذا التوجه، كمنصة لربط الخبرات السورية في الداخل والخارج، وتطوير المهارات الرقمية للشباب. ورغم أن نسبة انتشار الإنترنت في سوريا لم تتجاوز 49% عام 2024، فإن مبادرات التعليم البرمجي والرقمنة تشي بولادة اقتصاد جديد قائم على الكفاءات لا على البنية فقط.
اللغة العربية والبيانات... التحدي الصامت
رغم الطفرة التقنية، لا تزال المنطقة تواجه نقصاً حاداً في البيانات المهيكلة وضعفاً في المحتوى العربي. فوفق تقرير «اليونسكو 2024»، لا يتجاوز المحتوى العربي 3% من محتوى الإنترنت العالمي، رغم تضاعفه بين عامي 2018 و2024.
وتسعى دول الخليج إلى ردم هذه الفجوة عبر مشاريع لغوية وبيانية محلية، أبرزها مشروع «علّام» الذي طورته شركة «هيوماين» بالتعاون مع الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)، لتمكين التطبيقات الذكية من التعامل مع اللهجات العربية بدقة وسلاسة.
الأمن السيبراني... درع التحول الرقمي
في موازاة هذا التقدم، تتصاعد التهديدات الرقمية في المنطقة. إذ يصنف تقرير «IBM X-Force 2024» الشرق الأوسط رابع أكثر المناطق استهدافاً للهجمات الإلكترونية بنسبة 10% من مجمل الهجمات العالمية، فيما ارتفعت عمليات التصيد الإلكتروني والهجمات على الأنظمة المالية والتعليمية بنسبة 22% خلال عام واحد، بحسب «Kaspersky Threat Intelligence».
ولهذا تضع دول مثل السعودية والإمارات ومصر الأمن السيبراني في صلب استراتيجياتها للتحول الرقمي، معتبرةً إياه الركيزة الخفية لضمان الاستدامة التقنية. كما يشدد خبراء على أن الدول التي تبني منظوماتها الرقمية من الصفر، مثل سوريا، قادرة على الاستفادة من الخبرة الخليجية لتسريع التطوير وتعزيز المناعة الرقمية.


