"كنت هناك" - 69 عاما على مجزرة كفر قاسم

المجتمع العربي يحيي ذكرى 69 عاما على مجزرة كفر قاسم التي ارتقى فيها 69 شهيدا وشكلت مرحلة فارقة في مستقبل المجتمع العربي وصارت رمزا للصمود

راديو الناس|
1 عرض المعرض
مجزرة كفر قاسم
مجزرة كفر قاسم
مجزرة كفر قاسم
(تُستخدم هذه الصورة بموجب البند 27 أ من قانون الحقوق الأدبية (2007))
في التاسع والعشرين من أكتوبر عام 1956، وبينما كانت تشارك مع بريطانيا وفرنسا في الهجوم العسكري على مصر، المعروف باسم "العدوان الثلاثي"، ارتكبت إسرائيل واحدة من أبشع الجرائم ضدّ المواطنين العرب في البلاد، حين فتح جنود من وحدة حرس الحدود النّارَ على عشرات المواطنين العائدين إلى منازلهم من العمل إلى القرية، فإدى الى ارتقاء 49 شهيدا، بينهم 23 طفلًا و13 امرأة، بعدما فُرِض عليهم حظر تجوّل مفاجئ لم يعرفوا بوجوده اصلًا.
شهادات حيّة بعد مرور 69 عاما على مجزرة كفر قاسم
كنت هناك مع شيرين يونس
25:37
وكانت كفر قاسم، الواقعة على مشارف المثلّث الجنوبي بين إسرائيل والأردن، خاضعة كباقي القرى العربية آنذاك لنظام الحكم العسكري الذي فُرض على الفلسطينيين بعد النكبة. وفي اليوم الذي بدأت فيه الحرب على مصر، قرّرت القيادة الإسرائيلية فرض منع تجوّل شامل على القرى العربية المحاذية للحدود الأردنية، من بينها كفر قاسم، كفر برا، الطيرة، جلجولية، الطيبة وقلنسوة.

"سيُهتمّ بأمرهم"

وكان مختار كفر قاسم قد أُبلغ بالقرار قبل نصف ساعة فقط من سريان أمر حظر التجول، وأوضح للضابط الإسرائيلي أن مئات العمّال ما زالوا خارج القرية، ولن يتمكّنوا من العودة في الوقت المحدّد؛ فجاءه الردّ: "سيُهتمّ بأمرهم". وبعد دقائق، أقيمت حواجز عسكرية على مداخل القرية، وأُطلقت النار على كلّ من وصل بعد الخامسة، دون تمييز بين رجل أو امرأة أو طفل: قُتل الأهالي على دفعات عند المدخل الغربي للقرية، وكان من بين الضحايا أطفال دون العاشرة.

"مرغوب أن يسقط قتلى"

وقد أشرف على العملية الرائد شموئيل ملينكي، بأوامر من قائده يسسخار شدمي، الذي قال لضبّاطه، وفق ما ورد في محاضر المحكمة لاحقًا، إنّ "الأوامر تقضي بإطلاق النار على كلّ من يخالف منع التجوّل، حتى لو لم يكن يعلم به". لاحقًا، كشفت بروتوكولات المحكمة التي رُفِعت سريّتُها عام 2022، أنّ المجزرة لم تكن عملًا عشوائيًّا أو حادثًا عارضًا، بل ارتبطت بما عُرِف باسم "خطة خُلد"، وهي خطة عسكرية سرّية أعدّتها إسرائيل في الخمسينيات، هدفها ترحيل سكّان المثلّث الحدودي إلى الأردن عبر بثّ الرعب في نفوسهم. وجاء في الوثائق أنّ شدمي كان قد صرّح بوضوح: "من المرغوب أن يسقط قتلى"، لأنّ ذلك "سيزرع الخوف ويدفع الناس للرحيل".
فور انتهاء المجزرة، فُرِض تعتيمٌ كامل على القرية، ومُنِع الصحافيّون وأعضاء الكنيست من دخولها؛ لكنّ النائب العربي توفيق طوبي، أحد قادة الحزب الشيوعي، تمكّن برفقة زميله اليهودي اليساري مائير فيلنر من التسلّل إلى البلدة، حيث جمعا شهادات الناجين ووثّقا تفاصيل الجريمة، وساهما بنشر أوّل تقرير عنها في الكنيست وفي الصحف اليسارية؛ ما أجبر الحكومة الإسرائيلية على فتح تحقيق رسمي.
تحت ضغط الرأي العام المحلّي والدولي، أعلنت إسرائيل تشكيل لجنة تحقيق عسكرية، وقدّمت أحد عشر جنديًّا للمحاكمة، بينهم ملينكي وثلاثة من قادته؛ فيما تجنّبت محاكمة المسؤولين السياسيين والعسكريين الكبار. أصدرت المحكمة العسكرية في أكتوبر 1958 أحكامًا بالسجن بين 8 و17 عامًا على المتورّطين، معتبرة أنّ الأوامر التي تلقّوها "غير قانونية بشكلٍ صارخ" وأنّ "علمًا أسود يرفرف فوقها".
في مراحل الاستئناف المتتالية، خُفّضت هذه الأحكام تدريجيًّا إلى خمس سنوات، قبل أن يُعفى عنهم ويُفرَج عن آخرهم عام 1960. أمّا شدمي، الذي أصدر الأمر المباشر بإطلاق النار، فحُكم عليه بالتوبيخ ودفع غرامة رمزية مقدارها قرش واحد، في ما أصبح يُعرف في الذاكرة الفلسطينية بـ "قرش شدمي"، رمزًا للاستهتار بعدالة الضحايا.

سابقة قانونيّة

تميّزت مجزرة كفر قاسم عن غيرها من المجازر الإسرائيلية بأنها ارتُكبت داخل أراضي الدولة، ضدّ مواطنين مدنيّين عُزّل، يحملون الجنسيّة الاسرائيليّة، في منطقة بعيدة عن أي جبهة قتال. وقد شكّلت سابقة قضائية في إسرائيل، إذ كانت المرة الأولى التي يُدان فيها جنود على قتل مواطنين عرب رغم تنفيذهم أوامر عسكرية رسمية.
ورغم انّ هذه السابقة القانونيّة لم تغيّر جوهر السياسة تجاه الفلسطينيين في الداخل، الذين ظلّوا خاضعين للحكم العسكري حتى عام 1966، إلّا انّها شكّلت لحظة فارقة في الذاكرة الجماعية الفلسطينية، فتحوّلت المجزرة إلى رمزٍ للبقاء في وجه محاولات التهجير والترهيب، وإلى محطة أساسية في بناء الهوية الوطنية للفلسطينيين الذين بقوا في البلاد بعد النكبة.
ففي كفر قاسم نفسها، يقام سنويًا في التاسع والعشرين من أكتوبر موكبٌ إحياءً لذكرى الضحايا، يبدأ من النصب التذكاري قرب موقع المجزرة، وصولًا إلى "مقبرة الشهداء"، ويشارك فيه أهالي البلدة وقيادات المجتمع العربي في الداخل. كما أنشئ في البلدة عام 2006 متحفٌ خاصّ يوثّق أسماء الضحايا وصورهم وشهادات الناجين، فيما أُقيم عام 2016 مشروع "بانوراما الشهداء" في الذكرى الستين للمجزرة لتخليد الحدث بصيغة تفاعلية.
عام 2007، قدّم الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريتس اعتذارًا لأهالي البلدة خلال زيارة لها، ووصفها خليفته رؤوفين ريفلين عام 2014 بأنها "جريمة نكراء" تمثّل فصلًا أسود في تاريخ العلاقات بين العرب واليهود.
وفي الذاكرة الثقافية الفلسطينية، ألهمت المجزرة شعراء المقاومة الأوائل، فكتب توفيق زيّاد قصيدته الشهيرة "حصاد الجماجم"، قال فيها:
"ألا هل أتاك حديثُ الملاحم
وذبح الأناسيَّ ذبحَ البهائم؟
وقصة شعبٍ تسمّى.. حصادَ الجماجم
ومسرحها..
قريةٌ اسمها كفرُ قاسم؟"
أمّا محمود درويش فرثاها في "أزهار الدم" قائلًا:
"كُفْرُ قاسم
قرية تحلم بالقمح، وأزهار البنفسج
وبأعراس الحمائم
احصدوهم دفعة واحدة
احصدوهم
احصدوهم.
كفرَ قاسم
إنّني عدتُ من الموت لأحيا، لأغنّي
فدعيني أستعر صوتي من جرح توهّج
وأعينيني على الحقد الذي يزرع في قلبي عوسج
إنّني مندوب جرح لا يُساوم
علّمتني ضربةُ الجلّاد أن أمشي على جرحي
وأمشي..
ثمّ أمشي..
وأقاوم!"
تسعة وستون عامًا مرّت، وما زال "قرش شدمي" حاضرًا كرمزٍ لعدالة لم تتحقّق، وما زال إحياءُ ذكراها في كفر قاسم يذكّر بجريمةٍ لم تُغلق فصولُها بعد.
First published: 08:13, 29.10.25