ما بين الحرب والاعتراف بالدولة: أهالي غزة يواجهون مصيرًا مجهولاً بعد عامين

عامان على هجمات أكتوبر التي خلّفت نحو ربع مليون فلسطيني بين قتيل وجريح في حرب حوّلت غزة إلى مكان غير قابل للعيش

راديو الناس|
8 عرض المعرض
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
(فلاش 90)
شكّلت هجمات السابع من أكتوبر 2023 لحظة مفصلية في تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، غيّرت ملامح المنطقة بأسرها. ولكن ردّ إسرائيل جاء سريعًا وبقوة غير مسبوقة، إذ أعلنت الحكومة حالة الحرب وبدأت حملة عسكرية واسعة على قطاع غزة، شملت قصفًا جويًا مكثفًا وحصارًا كاملًا. ومنذ تلك اللحظة، انفتح باب الحرب على مصراعيه، ليقود إلى سلسلة معارك طويلة الأمد حصدت عشرات الآلاف الأرواح، ودفعت غزة إلى واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية في العصر الحديث.

غزة قبل الحرب: حصار ومعاناة متراكمة

8 عرض المعرض
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
تفجّر أحداث 7 أكتوبر: دمار هائل في غزة
(فلاش 90)
قبل السابع من أكتوبر 2023، كان قطاع غزة يعيش حصارًا استمر أكثر من 16 عامًا، حيث فرضت إسرائيل قيودًا مشددة على حركة البضائع والأفراد. الاقتصاد المحلي كان منهكًا، البطالة تجاوزت الـ 45% وفقًا لأرقام رسمية، والفقر وصل إلى مستويات غير مسبوقة. ورغم الأوضاع الصعبة، حافظ القطاع على حياة يومية مليئة بالتحديات، في ظل محاولات المواطن الفلسطيني التمسك بالحد الأدنى من الاستقرار، وكسب لقمة العيش.
لكنّ فجر يوم السبت 7 أكتوبر قلب المشهد رأسًا على عقب، لتدخل غزة مرحلة غير مسبوقة من الحرب والدمار، ولا زالت تبعاتها تترك أصداء واسعة حول العالم.

الحصيلة: رقم كارثي من الضحايا

8 عرض المعرض
طوابير الانتظار للحصول على مساعدات إنسانية في قطاع غزة
طوابير الانتظار للحصول على مساعدات إنسانية في قطاع غزة
طوابير الانتظار للحصول على مساعدات إنسانية في قطاع غزة
(فلاش 90)
منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 وحتى لحظة صياغة التقرير، فإن المواطن الفلسطيني الباحث عن الأمن والأمان والعيش بسلام دفع ثمنًا لن يُمحى لعقود. فوفقا للمعطيات الرسمية، فقد قتلت العمليات العسكرية الإسرائيلية أكثر من 66 ألف فلسطيني، غالبيتهم من الأطفال والنساء بموجب البيانات الرسمية الصادرة من غزة، بينما جُرح أكثر من 168 ألف شخص، كثير منهم بإصابات خطيرة وبتر أطراف، في ظل ضعف المنظومة الصحية.
عمليًا، هذه الأرقام المهولة تكشف عن أن ربع مليون إنسان فلسطيني إما فقد حياته، أو فقد مقوّمات الحياة، ولا زالت الأرقام غير نهائية ولا زال عدد كبير من الضحايا بين الركام ولا يستطيع أحد إحصاءهم لغياب الإمكانيات. هذه المعطيات أيضًا تكشف عن حجم يخرج عن الاستيعاب البشري بأعداد الأطفال اليتامى والنساء الأرامل والأباء الثكلى.
المعطيات هذه، جعلت الحرب في غزة من أكثر النزاعات دموية في القرن الحادي والعشرين بالنسبة لعدد الضحايا المدنيين غير المسبوق. ولا تنكر السلطات الإسرائيلية الرسمية هذه الأرقام أو تكذّبها.

مشهد الدمار: مدن تحولت إلى ركام

8 عرض المعرض
قصف إسرائيلي يستهدف مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة
قصف إسرائيلي يستهدف مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة
قصف إسرائيلي يستهدف مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة
(Flash90)
لم يكن الدمار أقل قسوة من الخسائر البشرية بعد عامين من الحرب، فصور الأقمار الصناعية وتقارير المنظمات الدولية ترسم صورة صادمة: أكثر من 360 ألف مبنى بين منزل ومدرسة ومسجد ومستشفى، تضررت أو دُمّرت كليًا، وسط تقديرات تشير إلى أن ما بين 35 – 63% من مباني غزة لم تعد صالحة للسكن. في مدينة رفح وحدها، وصلت نسبة الدمار إلى نحو 89% من المباني.
المستشفيات تحولت إلى ركام، المدارس لم تعد قادرة على استقبال الطلبة، وشوارع كاملة في غزة وخان يونس دُفنت تحت الركام. إعادة الإعمار، وفق خبراء، قد تحتاج إلى عقود وليس سنوات فقط.
بالتوازي، عاش السكان واحدة من أقسى الكوارث الإنسانية، بحيث أن أهالي القطاع دخلوا في حالة من النزوح الجماعي غير المتناهي، في حين امتلأت المخيمات والخيام المؤقتة في كل متر من المنطقة. يأتي ذلك فيما يشهد القطاع انقطاع متكرر للكهرباء والمياه، ونقص حاد في الأدوية والوقود والمقومات الأساسية للعيش الكريم. بل للعيش على الأقل.
وأما الجوع، فقد انتشر إلى درجة أن منظمات دولية حذرت من أن المجاعة بدأت تحصد الأرواح بالفعل، فيما أعلنت الأمم المتحدة رسميا عن ووجود مجاعة على نطاق واسع في غزة.
القطاع الصحي بدوره انهار تقريبًا؛ مستشفيات مدمرة أو بلا معدات، أطباء يعملون في ظروف ميدانية قاسية، والجرحى يُعالَجون في ممرات وأقبية، وأحيانا دون أي مواد مخّدرة وفقا لتقارير رسمية صدرت بين حين وآخر.

عودة إلى الوراء: جرائم حرب تصل الجنايات

8 عرض المعرض
آثار الدمار في جباليا وسط غزة
آثار الدمار في جباليا وسط غزة
آثار الدمار في جباليا وسط غزة
(Flash 90)
على الصعيد القانوني، كانت محكمة العدل الدولية في لاهاي محطة فارقة. ففي 29 كانون أول/ديسمبر 2023، رفعت جنوب أفريقيا دعوى قضائية تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق سكان غزة، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948. المحكمة أصدرت في 26 يناير 2024 قرارًا مؤقتًا يُلزم إسرائيل باتخاذ تدابير عاجلة، منها: منع أي أعمال يمكن أن تُفسَّر كإبادة جماعية، تسهيل دخول المساعدات الإنسانية، الحفاظ على الأدلة المتعلقة بالجرائم المزعومة، ومنع التحريض على الإبادة.
لكن، وفي الخلفية وردت تصريحات عمليا شكّلت مادة ريادية ودسمة لمحكمة الجنايات، وجاءت على لسان وزراء في حكومة نتنياهو نتذكّر منها:
وزير الأمن بذلك الوقت يوآف غالانت قال في 9 أكتوبر: "فرضت حصارًا كاملاً على غزة. لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، كل شيء مغلق". في تصريح آخر وصف الفلسطينيين في غزة بأنهم "حيوانات بشرية" (human animals). في قرار محكمة الجنايات، ورد أن هذا التصريح يُعتبر أقوى دليل لفظي على سياسة قد تُعدّ استخدام الجوع أو نقص الإمدادات كوسيلة حربية، وهو ما يُعدّ جريمة حرب تحت نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية.
نتنياهو شنّ تصريحات من بينها: "سنجعل كل الأماكن التي تختبئ فيها حماس، التي تعمل فيها، تلك المدينة الشريرة، سنحوّلها لركام."
الرئيس يتسحاق هرتسوغ قال بدوره عبارة مفادها أن "الأمة كلها مسؤولة" في غزة، وأبدى تشكيكًا في فكرة وجود مدنيين غير ضالعين، قائلاً إن الخطاب بأن "المدنيين ليسوا على علم أو مشاركة غير صحيح".
تصريحات القادة هذه لم تبقَ مجرد كلام، بل استُخدمت كأدلة أو مؤشرات على نية في ارتكاب ما قد يُصنَّف كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية وفقًا لقرار محكمة الجنايات الدولية
في أيار/مايو 2024، مدّ مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، طلبًا لمذكرات توقيف ضد بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت تُتهمهم بجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب منها: الاستخدام المتعمد للجوع كطريقة للحرب، القتل العمد، استهداف مدنيين، التسبب بمعاناة كبيرة، ومنع وصول المساعدات الإنسانية.
الردود الرسمية ومحاولات التبرير
8 عرض المعرض
محكمة الجنايات الدولية
محكمة الجنايات الدولية
محكمة الجنايات الدولية
(ICC)
إسرائيل ردّت على هذه المطالب القانونية والتوصيفات بالإصرار على أن عملياتها تأتي في إطار حق الدفاع عن النفس، وأنها تحاول الالتزام بالقانون الدولي. كما أكدت أن بعض التصريحات تم تفسيرها خارج سياقها، أو أنها جاءت في لحظات حرب عندما التوتر عالٍ، وموجهة ضد "مقاتلين إرهابيين" وليس ضد المدنيين، ورغم الطابع الرمزي والقانوني لقرارات المحكمة، فإنها شكّلت سابقة مهمة في تدويل قضية غزة، وأبقت الحرب حاضرة في أجندة القانون الدولي.

غزة اليوم: مستقبل غامض

بعد مرور عامين، يقف القطاع على مفترق طرق. الأرض مدمرة، آلاف المعتقلين والمفقودين ما زالوا في طي المجهول، والمجتمع الدولي يتأرجح بين الدعوات للإعمار والجدل حول المساءلة. أما غزة اليوم ليست كما كانت قبل الحرب: نصف سكانها تقريبًا بلا مأوى ثابت. جيل كامل من الأطفال يعيش صدمة الحرب والمجازر. دون مدارس وحضانات، عمليا فقدوا عامين دراسيين من حياتهم والثالث بدأ فعليا.

إنسانية العالم تخرج عن صمتها

في سياق التحولات السياسية الكبرى التي شهدها العالم في أعقاب تفجّر أحداث 7 أكتوبر، برزت خطوات تاريخية تمثلت في اعتراف فرنسا رسميًا بدولة فلسطين، سبقها بريطانيا ودول أخرى حول العالم. جاء هذا الإعلان من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال قمة "حل الدولتين" في نيويورك، التي عقدت على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وأكد ماكرون أن هذا الاعتراف يُعد خطوة ضرورية لإحياء أمل السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مشددًا على ضرورة أن تكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، مع دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس لنزع سلاح حماس
بعد ساعات من إعلان فرنسا، تبعتها دول غربية أخرى في خطوة مشابهة، حيث أعلنت بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال رسميًا اعترافها بدولة فلسطين. رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر صرح بأن هذا الاعتراف يهدف إلى إبقاء أمل السلام حيًا، مؤكدًا أن بلاده ستفرض عقوبات إضافية على شخصيات من حركة حماس في الأسابيع المقبلة.
بذلك، انضمت هذه الدول إلى قائمة متزايدة من الدول التي تعترف بدولة فلسطين، ليصل العدد الإجمالي إلى أكثر من 150 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة
هذه الاعترافات تأتي في وقت حساس، حيث تسعى الأطراف الدولية إلى إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، وسط سيل من الدماء على الأرض
من جهة أخرى، أثار هذا التحول في المواقف الغربية ردود فعل متباينة. إسرائيل عبرت عن استيائها من هذه الاعترافات، معتبرة إياها خطوة غير بنّاءة قد تعرقل جهود السلام. في المقابل، رحب الفلسطينيون بهذه الخطوات، معتبرين إياها دعمًا دوليًا مشروعًا لحقوقهم في إقامة دولتهم المستقلة.

مظاهرات تجتاح أوروبا

8 عرض المعرض
مظاهرات حاشدة في ايطاليا
مظاهرات حاشدة في ايطاليا
مظاهرات حاشدة في ايطاليا
(وفق البند 27 أ لقانون حقوق النشر 2007)
بموازاة ذلك، انتشرت المظاهرات في مدن عدة حول العالم، سواء في أوروبا، آسيا، أستراليا، أمريكا اللاتينية، والعالم بأسره، للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني ورفض الحصار والقصف والاعتداءات، وخاصة بعد اعتراض أسطول صمود الأخير، الذي فجّر موجة غضب عارمة في دول أوروبية عدّة
في إيطاليا على سبيل المثال، خرج مئات الآلاف في مدن مثل روما وميلانو وفلورنسا وغيرها، في تظاهرات تطالب بوقف القصف ورفع الحصار، فضلًا عن الدعوة لمقاطعة إسرائيل.
8 عرض المعرض
مظاهرات في بريطانية ضد اعتقال ناشطي أسطول الحرية
مظاهرات في بريطانية ضد اعتقال ناشطي أسطول الحرية
مظاهرات في بريطانية ضد اعتقال ناشطي أسطول الحرية
(وفق البند 27 أ من قانون الحقوق الأدبية (2007))
في أستراليا، نظّمت "حركة التضامن مع فلسطين" احتجاجات واسعة في عدة مدن إثر قرار الحكومة بالاعتراف المشروط بدولة فلسطين، حيث شارك عشرات الآلاف مطالبين بإنهاء العنف ودعم حقوق الفلسطينيين.
في هولندا هناك مظاهرات تُعرف باسم "الخط الأحمر / Red Line" في لاهاي، راجعتها جماعات حقوقية تطالب بالحكومة باتخاذ موقف أقوى تجاه إسرائيل، ووقف عمليات عسكرية يُعتبرها المتظاهرون خرقًا للقانون الدولي.

عامان من الحرب وهول الكارثة مُفجع

عامان مرّا على اندلاع الحرب، وغزة لا تزال تعيش في قلب الأزمة. آلاف الأرواح أُزهقت، مدن دُمرت، ومحكمة لاهاي ما زالت تبحث في أروقتها عن العدالة. وبينما تستمر المعاناة، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيكون القادم مرحلة جديدة من الأمل والإعمار، أم فصلًا آخر من حرب لا تنتهي؟