يُصادف الثامن عشر من كانون الأوّل من كل عام اليوم العالمي للغة العربية، وهو يومٌ أقرّته منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 2012، استنادًا إلى قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة رقم 3190 الصادر في 18 كانون الأوّل 1973، والذي نصّ على اعتماد اللغة العربية لغةً رسمية ولغة عمل داخل الأمم المتحدة وهيئاتها؛ ما شكّل محطة مفصليّة في حضور العربية داخل المنظومة الدوليّة.
هذا الاعتراف الأمميّ لم يكن خطوة رمزية معزولة، بل جاء نتيجة جهود مؤسّسية ودبلوماسية امتدّت لعقود؛ فمنذ خمسينيات القرن الماضي، سُمح باستخدام العربية في نطاق محدود داخل الأمم المتحدة، واقتصر الأمر حينها على الترجمة التحريرية وبشروطٍ صارمة. لاحقًا، ومع قرارات متتالية داخل اليونسكو في ستينيات القرن العشرين، توسّع حضور العربية ليشمل المؤتمرات الإقليمية وترجمة الوثائق الأساسية وتوفير خدمات الترجمة الفورية، وصولًا إلى اعتمادها لغة عمل على نحوٍ تدريجيّ. هذا المسار تُوّج في مطلع السبعينيات، بعد ضغوط دبلوماسية عربية منسّقة، بإدخال العربية ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة، ما شكّل نقطة تحوّل في مكانتها داخل المنظومة الدولية.
من المبادرة الثقافية إلى الإقرار الأممي
أمّا تخصيص يوم عالمي للاحتفاء باللغة العربية فجاء لاحقًا، في سياقٍ ثقافيّ مختلف، تزامن مع تصاعد النقاش حول مكانة اللغة وتحدّياتها ومستقبلها في عالم سريع التحوّل. في عام 2012، وخلال انعقاد المؤتمر الدولي الأول للغة العربية في بيروت، طُرحت مبادرة تدعو إلى تخصيص يوم عالمي للغة العربية، باعتبارها لغة حضارة ومعرفة، لا مجرّد أداة تواصل. هذه المبادرة وردت ضمن ما عُرف بـ "وثيقة بيروت"، التي شكّلت مرجعًا فكريًا وثقافيًا لتشخيص واقع العربية والتحدّيات التي تواجهها، واقتراح مسارات لحمايتها وتطويرها على المستويات التعليمية والثقافية والمؤسّسية.
عقب المؤتمر، تبنّت اليونسكو المبادرة بدعم من دول عربية عدّة، ليُقرّ المجلس التنفيذي للمنظّمة اعتماد يوم 18 كانون الأوّل يومًا عالميًا للغة العربية، ويُحتفل به رسميًا للمرة الأولى في العام نفسه. ومنذ ذلك الحين، بات هذا اليوم مناسبةً سنوية لإطلاق أنشطة وبرامج تُعنى باللغة العربية وتسلّط عليها الضوء من زوايا مختلفة، ضمن إطار يعزّز التعدّد اللغوي والتنوّع الثقافي.
احتفاليّة 2025: أي مستقبل للعربية؟
وتحمل احتفالية اليوم العالمي للغة العربية أبعادًا تتجاوز الرمزية، لتطرح أسئلة حول مستقبل اللغة في ظلّ التحوّلات الرقمية وهيمنة اللغات الكبرى في مجالات عدّة، كالتكنولوجيا والإعلام. لهذا السبب، اختارت اليونسكو أن تركّز احتفالية عام 2025 على شعار "مسارات مبتكرة للغة العربية: سياسات وممارسات من أجل مستقبل لغوي أكثر شمولًا"، في إشارة إلى أهمّية ربط اللغة العربية بالتعليم الحديث، والتكنولوجيا، والإعلام، والسياسات العامّة، بما يضمن إتاحتها لمجتمعات متعدّدة اللغات ومحدودة الموارد.
من هنا، فإنّ الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وفق هذا الفهم، لا يقتصر على استعادة الأمجاد اللغوية والثقافية، بل يندرج ضمن مقاربة معاصرة ترى في اللغة عنصرًا حيًّا يتطلّب استثمارًا متواصلًا. وبينما تواصل العربية حضورها كلغة رسمية في الأمم المتحدة، يبقى التحدي الأوسع مرتبطًا بقدرتها على مواكبة العصر، من دون التفريط بثرائها التاريخي ومكانتها الثقافية – ما يجعل هذا اليوم مناسبة للتفكير بواقع اللغة، لا مجرّد مناسبة احتفالية.
وتُعدّ اللغة العربية اليوم واحدة من أكثر لغات العالم انتشارًا، إذ يتحدّث بها مئات الملايين داخل الوطن العربي وخارجه، كما تحظى بمكانة خاصّة بوصفها لغة القرآن الكريم، ولغة شعائرية لدى طوائف مسيحية شرقية، إضافة إلى كونها لغة تراث فكري وديني يهودي في العصور الوسطى. إلى جانب بعدها الديني، لعبت العربية دورًا محوريًا في نقل المعارف العلمية والفلسفية إلى أوروبا، وأسهمت في التأثير على لغات وثقافات متعدّدة، من آسيا إلى إفريقيا وأوروبا.


